العرض والطلب في سوق الذهب: لغز الكمية وآلية التسعير

يثير تحديد كميات العرض والطلب في سوق الذهب أسئلة جوهرية حول منطقية التسعير، خاصةً وأن الذهب يُنظر إليه كأحد أكثر الأصول استقراراً على مر التاريخ.

لا يمكن الإجابة على سؤال “كمية العرض والطلب اليوم؟”

برقم واحد، لأن سوق الذهب ليس سوقاً مركزياً واحداً، بل هو شبكة معقدة من التداولات تشمل بورصات وعقود آجلة وتجارة سبائك فعلية على مدار الساعة.


تحدي قياس الكمية اليومية


البيانات الدقيقة لإجمالي الأونصات التي تم تداولها أو إنتاجها أو تحويلها إلى مجوهرات في يوم واحد غير متوفرة بشكل نهائي عند الإغلاق.

فبينما تصدر التقارير عن كميات الإنتاج الفعلي والطلب الاستهلاكي بشكل دوري (ربع سنوي أو سنوي)، يعتمد المتداولون والمحللون على مؤشرات تعكس حجم وقوة النشاط التجاري اليومي:


* حجم التداول (Volume): وهو المقياس الأهم، إذ يمثل الكمية الإجمالية من العقود أو الأونصات التي تم تبادلها في البورصات خلال اليوم. وهذا المؤشر يتجاوز عدد الصفقات، مانحاً وزناً أكبر للصفقات الضخمة التي يقوم بها المستثمرون الكبار.


* الاهتمام المفتوح (Open Interest): يعكس عدد العقود الآجلة غير المغلقة، مما يدل على السيولة الجديدة الملتزمة في السوق وتوقعات المستثمرين المستقبلية.


منطق التسعير وتأثير اللاعبين الكبار


تحديد سعر الذهب يشبه إلى حد كبير آلية عمل بورصات الأسهم والعملات الرقمية، حيث يتحدد السعر بناءً على تفاعل أوامر الشراء والبيع اللحظية (الطلب والعرض الهامشي). وعندما يتفوق ضغط الطلب على ضغط العرض، يرتفع السعر.


هنا تبرز نقطة هامة: إن تأثير المستثمرين الكبار (أو “الحيتان” كما يطلق عليهم) من بنوك مركزية وصناديق تحوط ضخمة هو عامل أساسي في تحريك الأسعار بشكل حاد. الصفقة الواحدة التي تحمل كمية كبيرة من الذهب يمكن أن تحدث “انزلاقاً” في الأسعار وتدفعها لأعلى أو لأسفل، وهو ما يفرض على المحللين مراقبة الحجم ونوعية الصفقات بدلاً من مجرد عددها.


التناقض بين العرض والطلب الجوهري


ما يجعل سوق الذهب فريداً هو التناقض بين جانبي العرض والطلب:


من ناحية العرض

لا يمكن اعتباره غير محدد، بل يتميز بالاستقرار النسبي.

كل الذهب الذي تم تعدينه عبر التاريخ (وهو مخزون ضخم جداً) يشكل العرض الثابت الرئيسي في السوق.

وبالتالي، فإن الزيادة السنوية الناتجة عن إنتاج المناجم الجديدة (والتي لا تتجاوز 1-2% من المخزون) لا تحدث صدمة حقيقية، بل يتم استيعابها بسهولة من قبل هذا المخزون التاريخي.


من ناحية الطلب

هو هائل ومتنوع، يأتي من جهات ذات دوافع متباينة:


* البنوك المركزية والدول: تشتري الذهب كـ “مخزن قيمة” استراتيجي وكتحوط ضد التضخم وضعف العملات. هذا النوع من الشراء مستدام ويرفع القيمة الجوهرية للذهب.


* المستثمرون الأفراد والمؤسسات: يلجؤون إليه كـ “ملاذ آمن” خلال الأزمات والتوترات الجيوسياسية أو المخاوف الاقتصادية.

هذا الطلب هو الأكثر تأثيراً في رفع الأسعار بشكل حاد وسريع.
في النهاية، فإن سعر الذهب لا يتحدد بكمية الإنتاج السنوي، بل يتحدد بالسعر الذي يفرضه آخر مشترٍ على آخر بائع في السوق اللحظي.

هذا التوازن بين الخوف والطمع، وبين المخزون التاريخي والطلب التحوطي، هو ما يمنح الذهب منطقيته المعقدة كأداة مالية وسياسية عالمية.