في عام 1964، كان الحد الأدنى للأجور في الولايات المتحدة يبلغ 1.25 دولار في الساعة. رقم قد يبدو ضئيلاً اليوم، لكنه آنذاك حمل قيمة حقيقية ثقيلة. الأجور كان يمكن دفعها بخمسة أرباع من الدولار، عملات معدنية مصنوعة من 90% من الفضة الخالصة.

كل ربع دولار (Quarter) كان يحتوي على نحو 0.18 أونصة من الفضة. ولو قسنا تلك العملة بسعر الفضة اليوم (46 دولارًا للأونصة)، فإن خمسة أرباع عام 1964 تعادل 41 دولارًا. بمعنى آخر: كان الحد الأدنى للأجور في ذلك العام يساوي 41 دولارًا في الساعة بمقياس الفضة



نهاية عصر النقد المعدني

عام 1964 لم يكن مجرد محطة عابرة، بل كان نهاية عهد. كان ذلك آخر عام تُسك فيه أرباع الدولار والديمات من الفضة. حتى نصف الدولار الذي استمر حتى 1970 بنسبة 40% فضة، انتهى به المطاف إلى خسارة أي صلة بالمعدن النفيس.

لماذا؟ لأن الفضة التي تحتويها تلك العملات أصبحت أكثر قيمة من الأرقام المنقوشة على وجوهها. فاندفع المضاربون إلى تخزينها، واختفت من التداول تدريجيًا.

الضغط لم يكن ماليًا فقط، بل أيضًا صناعيًا. فقد كانت الفضة ضرورية في مجالات مثل التصوير الفوتوغرافي والإلكترونيات والتصنيع. لكن العامل الحاسم كان سياسيًا: الفضة (والذهب) يفرضان قيودًا طبيعية على حجم الإنفاق الحكومي، وواشنطن أرادت التخلص من تلك القيود.



الانفصال عن الذهب

في عام 1965 أُزيلت الفضة من العملة. وبعد ست سنوات، جاء الدور على الذهب. ففي عام 1971، أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إنهاء قابلية تحويل الدولار إلى الذهب، منهياً بذلك آخر قيد واقعي على التوسع النقدي.

كان السبب المباشر هو السياسة المزدوجة للرئيس ليندون جونسون: “البنادق والزبدة” (Guns and Butter). ففي الداخل، توسع في برامج الرعاية الاجتماعية؛ وفي الخارج، صعّد من الإنفاق العسكري في حرب فيتنام. النتيجة: عجز مالي غير قابل للاستدامة.

بدأت البنوك المركزية الأجنبية تطالب بتحويل دولاراتها إلى ذهب بسعر 35 دولارًا للأونصة، ما أدى إلى استنزاف احتياطيات الذهب الأميركية حتى انهار النظام.



من المال الصلب إلى المال الورقي

بإلغاء الذهب، تبخّرت الانضباطية التي فرضتها المعادن الثمينة على الحكومات. أصبح الإنفاق بلا سقف، وتحولت الدورة التضخمية من ظاهرة دورية إلى سمة هيكلية دائمة في الاقتصاد الأميركي والعالمي.

لم تكن إزالة الفضة عام 1965 ولا التخلي عن الذهب عام 1971 مجرد قرارات إدارية. بل كانتا نقطة تحول تاريخية: الانتقال من عصر النقد الصلب القائم على الندرة والغطاء المعدني، إلى عصر النقد الورقي (Fiat Money) القائم على المرسوم السياسي.

الرسوم البيانية للتضخم منذ 1913 وحتى اليوم تحكي القصة بوضوح صادم:
• الاستقرار الذي طبع النصف الأول من القرن العشرين.
• مقابل التآكل المركب الذي بدأ مع السبعينيات ولم يتوقف.

إرث القرار

دخل القرن العشرون والمال يُستخدم كـمخزن للقيمة، لكنه خرج منه وقد تحوّل إلى أداة للديون والإنفاق الحربي والتوسع بلا حدود.

القراران ـ إزالة الفضة وإنهاء الذهب ـ لم يكونا مجرد نهاية لحقبة، بل كانا فتحًا لباب جديد، ما زالت آثاره تشكّل حاضرنا الاقتصادي حتى اليوم:
• تضخم متكرر ومتجذر.
• انفجار في الدين العام والخاص.
• انفصال المال عن أي أساس طبيعي للندرة.

إنها قصة عن كيف تحوّل الدولار من معدن يُختزن في الجيب، إلى ورق يُطبع بلا حدود، ثم إلى إشارات رقمية تتضاعف بالضغط على زر.