من مقولات الجنرال ديغول «الجغرافيا تصنع التاريخ»، وهي مقولة فيها الكثير من الصدق، فالموقع المكاني يصنع أيضاً نمط الحياة وشكل التفاعل بين الداخل والخارج، وبعبارة أخرى يصنع آليات التقدم والتطور لطرف أو قد يصنع عكس ذلك لطرف آخر.

المنطقة العربية والعالم الشرقي القديم، وتحديداً ما يعرف بالشرق الأوسط، موطن الحضارات القديمة التي كان خاتمتها مجيء الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والإسلام، كانت المنطلق الأول لوضع لبنات الحضارة الإنسانية التي توالى على رفدها شعوب العالم أجمع بدرجات متفاوتة. فقد أعقب ذلك ظهور حضارات أسهمت إيجابياً في رفد الإنسانية في مناطق متعددة من العالم، في الصين والهند وأميركا اللاتينية وغيرها.

إلا أن الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، وخاصة الخليج والجزيرة العربية، في هذه المرحلة من مراحل التاريخ تختلف عن ذي قبل وأصبحت تستند إلى أسس أخرى.

ألم تشهد المنطقة صراع القوى العظمى في مختلف المراحل ابتداءً بغزوات الاسكندر الكبير ومروراً بغزوات القوى التي أفرزتها الثورة الصناعية في أوروبا ووصولاً إلى الحاضر الذي تتعمق فيه بصمات القوى التي تقف خلف العولمة.

ربما يوضح هذا الشريط التاريخي حقيقة أن الصراع كان دائماً يقع من أجل مصالح القوى المتصارعة لغرض فرض الهيمنة على هذه البقعة ولا يزال كذلك حتى الآن. وقد يستمر هذا الصراع لفترات طويلة في المستقبل ربما لأسباب مختلفة وفي ظل تحولات مختلفة، إلا أن جوهره يبقى واحداً، وهو التضارب في المصالح سواء كان ذلك في مجال مصادر الطاقة أو حول الحصول على مواد أولية أخرى تدخل في صناعات حيوية أو غير ذلك. فالمشهد التاريخي قد أكد دوماً على أن إحدى بؤر الصراع في العالم منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن هي منطقة الشرق الأوسط، المنطقة الأكثر ثراءً بمصادر الطاقة في العالم.

وبالتالي فإن من يستطيع أن يهيمن على حقول النفط سيتمكن من الهيمنة على مسارات العالم أجمع، فالنفط في الوقت الحاضر، وربما على أمد نصف قرن قادم سيبقى العصب الأساسي في الماكينة الصناعية في العالم.

بالنسبة للدول العظمى، الولايات المتحدة بشكل خاص، استراتيجية الطاقة فيها جزء أساسي من استراتيجية أمنها القومي، فالطاقة أصبحت لديها أحد أهم الأعمدة في رفد الأيديولوجية التي تتحكم بالعالم. وأصبحت الطاقة الأفيون الجديد خاصة لمن أدمن عليها، فلا أحد مهما كانت قوته يستطيع أن يقاوم إغراء النفط، كما لا يستطيع مقاومة إغراء فتاة حسناء يرغب الجميع في التودد إليها، وبالتالي فالتعطش إلى رشفة من آباره قد يكون أكثر لذة من لثم شفاه تلك الفتاة.
وعلى الرغم من أن النفط متوافر في العديد من أرجاء العالم، إلا أن رصيد الشرق الأوسط منه، وخاصة الدول العربية الخليجية هو الذي يجعل الغرب الصناعي والمارد الشرقي الصاعد يريان أن سياساتهم الخارجية ينبغي أن تتشذب وفق خصائص الشرق الأوسط، فالنفط في هذه المنطقة هو مصدرهم الواعد في إدامة دوران عجلات صناعاتهم.

ويشذ عن ذلك احدى القوى العظمى المهمة، وهي روسيا، التي تمتلك خزيناً كبيراً من النفط، روسيا التي قادت كل مراحل الحرب الباردة ضد العالم الحر في المعسكر الرأسمالي على مدى سبعة عقود من الزمن، ظن الغرب الرأسمالي في نهايتها أن انهيار الاتحاد السوفييتي هو نهاية الكابوس الذي أرقها طوال تلك العقود من الزمن، ولم يضع في عين الاعتبار إمكانية عودة هذه القوة، وأهمل العديد من باحثيه وخبرائه أن حلم الهيمنة لم يكن فقط حلماً سوفييتياً وإنما حلم روسي قديم، فعودة القومية الروسية إلى الظهور بقوة في روسيا الحديثة التي تسترجع عنفوانها أمر واقع لا ينبغي لمن يتعامل مع القوى الفاعلة في التاريخ إهماله، كما هو حلم الأوروبيين في المراحل المختلفة من تأريخ البشرية.

في بداية الألفية الثالثة ومع إطلالة القرن الجديد لم تظهر معطيات مختلفة عما أتت مع القرن المنصرم، ولا حتى عن التزامات القرون الماضية، إن الشرق هو الذي يتحكم بالغرب، سواء من ناحية الهيمنة الأيديولوجية أو من ناحية الهيمنة على مصادر الطاقة. فهذا الشرق الذي يتمتع لدى معظم الناس في العالم بأهمية بعض مواقعه التي شهدت ميلاد رسالات سماوية والذي تقع فيه رموز للعبادة لا يتردد الكثيرون في العالم في بذل الغالي والنفيس لزيارتها، هو نفس الشرق الذي يتبارى الأقوياء في الحصول على رضاه، وللتقرب من آبار نفطه ونيل بركاتها.

فالشرق هو الذي يتحكم في العالم بالرغم من أن ربوعه لم تشهد عصر التنوير ولا ساهمت في رسم بعض ملامح الثورة الصناعية، ولم يتردد في صدى أراضيه نشيد المارسيليز كما تردد ليحطم جدران سجن الباستيل في باريس. إلا أنه الشرق الذي تشرق منه الشمس التي تبعث الحياة، فهو لم يزل عنصراً أساسياً في التقدم.
إن معظم النظريات المعروفة في مجال السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع تعير اهتمامها الأكبر نحو الدور المحرك للتأريخ، وتركز على عناصر الصراع التي تصنع التقدم: طبيعة النمط الاقتصادي، التركيب المجتمعي، الصراع الطبقي، وغير ذلك من العوامل الأقل أهمية في صناعة التاريخ، وقد أدى ذلك إلى إثراء الفكر الإنساني خاصة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
لقد كانت حلقة النقاش في المجلس الرمضاني للفريق ضاحي خلفان تميم في الأسبوع الماضي، هي التي أعادت إلى الذاكرة تلك المقدمة، وكانت تحمل عنوان الأمن والاقتصاد، حيث أكد الحاضرون أهمية الاستقرار السياسي والاجتماعي على الأوضاع الاقتصادية بشكل عام، وأن الصراع على مصدر الطاقة في الوقت الراهن وهو النفط، هو الذي يحرك الأساطيل من مكان لآخر، بهدف حماية تلك المصادر، فما بالك إذا كانت الطاقة النووية والنفطية لدى دولة تعتبرها القوى المهيمنة وهي تحديداً الولايات المتحدة الأميركية وحليفتها إسرائيل، العدو الرئيسي لمشاريعها في المنطقة العربية والإسلامية.
إن الأمن والاستقرار من المطالب الأساسية لحكومات وشعوب المنطقة، وهي بحاجة إلى أخذ مجال من الراحة بعد أكثر من نصف قرن من الإرهاب والحروب، والتي ليس لها فيه يد، إنما الموقع والمكان هما السبب في ذلك.
والقضية الأخرى التي تؤرق فكر وحياة المهتمين في المنطقة هو تقلص حجم الطبقة الوسطى وخاصة بين المواطنين العرب بشكل عام ودول مجلس التعاون الخليجي بشكل خاص، فقد لاحظ السادة المشاركون في ندوة «الأمن الاقتصادي بمنطقة الخليج» ازدياد الفجوة بين الطبقات الغنية في هذه المجتمعات وبين الطبقات الوسطى فيها. ولذلك في الحقيقة سلبياته إذ أن الطبقة الوسطى هي صمام الأمان للمجتمع، فهي التي تعطي المجال للحراك الاجتماعي سواء نحو الأعلى أو من الأسفل إلى الأعلى.
وأخيراً وليس آخراً، فقد اتفق الجميع على أن إقدام الولايات المتحدة الأميركية على شن حرب ضد الجمهورية الإيرانية، لا يخدم بأي شكل من الأشكال مصالح دول المنطقة، بل قد تشكل تهديداً للمصالح الغربية وخاصة فيما يتعلق بالنفط، وعليه فإنه من الممكن حل ذلك الصراع بالطرق السلمية، كما كان الحال مع كوريا الشمالية أو غيرها.